فصل: تفسير الآيات (46- 56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



متى تَأْتِه تَعْشُوا إلى ضَوْءِ نارِه ** تَجِدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوْقِدِ

أي: تَنْظُرُ نَظَرَ العشِي لضَعْفِ بصرِه مِنْ كثرةِ الوَقودِ. وفَرَّق بعضُهم: بأنَّ عَشَوْتُ إلى النارِ إذا اسْتَدْلَلْتَ عليها بنظرٍ ضعيفٍ وقيل: وقال الفراء: عَشا يَعْشى يُعْرِض، وعَشِي يَعْشَى عَمِيَ. إلاَّ أنَّ ابن قتيبة قال: لم نَرَ أحدًا حكى عَشَوْتُ عن الشيء: أَعْرَضْتُ عنه، وإنما يقال: تعاشَيْتُ عن كذا إذا تغافَلْتَ عنه وتعامَيْتَ.
وقرأ العامَّةُ {نُقَيِّضْ} بنونِ العظمةِ. وعلي بن أبي طالب والأعمش ويعقوبُ والسلميُّ وأبو عمروٍ وعاصمٌ في روايةٍ عنهما {يُقَيِّضْ} بالياء من تحت أي: يُقَيِّض الرحمنُ. و{شيطانًا} نصبٌ في القراءتين. وابن عباس {يُقَيَّضْ} مبنيًا للمفعول، {شيطانٌ} بالرفع، قائمٌ مقامَ الفاعلِ.
{وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)}.
قوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ}: الظاهرُ أنَّ ضميرَيْ النصبِ عائدان على {مَنْ} مِنْ حيث معناها، راعى لفظَها أولًا فأفردَ في {له} و{له}، ثم راعى معناها، فجَمع في قوله: {وإنَّهم ليَصُدُّوْنَهم}. والضميرُ المرفوعُ على الشيطان؛ لأنَّ المرادَ به الجنسُ، ولأنَّ كلَّ كافرٍ معه قَرِيْنٌ. وقال ابن عطية: إنَّ الضميرَ الأولَ للشياطين، والثاني للكفار. التقدير: وإنَّ الشياطين ليَصُدُّوْنَ الكفارَ العابثين.
{حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قال يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)}.
قوله: {إِذَا جَاءَنَا}: قرأ أبو عمروٍ والأخوان وحفصٌ {جاءنا} بإسنادِ الفعلِ إلى ضميرٍ مفردٍ يعودُ على لفظ {مَنْ} وهو العاشي، وحينئذٍ يكونُ هذا ممَّا حُمِل فيه على اللفظ ثم على المعنى، ثم على اللفظ، فإنَّه حُمِلَ أولًا على لفظِها في قوله: {نُقَيِّضْ له} {فهو له}، ثم جُمِع على معناها في قوله: {وإنَّهم ليَصُدُّونهم} و{يَحْسَبون أنهم}، ثم رَجَعَ إلى لفظِها في قوله: {جاءنا}، والباقون {جاءانا} مُسْندًا إلى ضميرِ تثنيةٍ، وهما العاشي وقَرينُه.
قوله: {بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ} قيل: أراد المشرقَ والمغربَ، فغلَّبَ كالعُمَرَيْن والقَمَرَيْن. وقيل: أراد بمَشْرِقَيْ الشمسِ مَشْرِقَها في أقصرِ يومٍ ومَشْرِقَها في أطولِ يومٍ. وقيل: بُعْدَ المَشْرِقَيْن من المَغْرِبَيْن.
قوله: {فبِئْسَ القَرينُ} مخصوصُه محذوفٌ أي: أنت.
{وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)}.
قوله: {وَلَن يَنفَعَكُمُ}: في فاعلِه قولان، أحدهما: أنه ملفوظٌ به، وهو {أنَّكم} وما في حَيِّزِها. التقدير: ولن يَنْفَعَكم اشتراكُكم في العذاب بالتأسِّي، كما يَنْفَعُ الاشتراكُ في مصائب الدنيا فيتأسَّى المُصاب بمثلِه. ومنه قول الخنساء:
ولولا كَثْرَةُ الباكِيْنَ حَوْلي ** على إخوانِهم لقَتَلْتُ نَفْسي

وما يَبْكُون مثلَ أخي ولكنْ ** أُعَزِّي النفسَ عنه بالتأسِّي

والثاني: أنّه مضمرٌ. فقدَّره بعضُهم ضميرَ التمنِّي المدلولَ عليه بقوله: {ياليت بَيْنِي} أي: لن يَنْفَعكم تَمَنِّيْكم البُعْدَ. وبعضُهم: لن ينفَعَكم اجتماعُكم. وبعضُهم: ظُلْمُكم وجَحْدُكم. وعبارةُ مَنْ عَبَّر بأنَّ الفاعلَ محذوفٌ مقصودُه الإِضمارُ المذكورُ لا الحذفُ؛ إذ الفاعلُ لا يُحْذَفُ إلاَّ في مواضعَ ليس هذا منها، وعلى هذا الوجهِ يكونُ قوله: {أنَّكم} تعليلًا أي: لأنَّكم، فحذفَ الخافضَ فجرى في مَحَلِّها الخلافُ: أهو نصبٌ أم جرٌّ؟ ويؤيِّد إضمارَ الفاعلِ، لا أنَّه هو {أنَّكم}، قراءة {إنكم} بالكسرِ فإنَّه استئنافٌ مفيدٌ للتعليلِ.
قوله: {إذْ ظَلَمْتُمْ} قد استشكل المُعْرِبون هذه الآيةَ. ووجهُه: أنَّ قوله: {اليومَ} ظرفٌ حالِيٌّ، و(إذ) ظرفٌ ماضٍ، و{يَنْفَعَكم} مستقبلٌ؛ لاقترانِه بـ: {لن} التي لنفي المستقبلِ. والظاهرُ أنه عاملٌ في الظرفَيْن، وكيف يعملُ الحدثُ المستقبلُ الذي لم يقَعْ بعدُ في ظرفٍ حاضرٍ أو ماضٍ؟ هذا ما لا يجوزُ. فأُجيب عن إعماله في الظرفِ الحاليِّ على سبيلِ قُرْبِه منه؛ لأنَّ الحالَ قريبٌ من الاستقبالِ فيجوز في ذلك. قال تعالى: {فَمَن يَسْتَمِعِ الآن} [الجن: 9] وقال الشاعر:
............................ ** سَأَسْعَى الآنَ إذ بَلَغَتْ أَناها

وهو إقناعيٌّ، وإلاَّ فالمستقبلُ يَسْتحيلُ وقوعُه في الحالِ عقلًا. وأمَّا قوله: {إذ} ففيها للناسِ أوجهٌ كثيرةٌ. قال ابن جني: راجَعْتُ أبا عليّ فيها مِرارًا فآخرُ ما حَصَّلْت منه: أنَّ الدنيا والآخرةَ متصلتان، وهما سواءٌ في حُكْم اللَّهِ تعالى وعِلْمِه، فـ: {إذ} بدلٌ من {اليوم} حتى كأنَّه مستقبلٌ أو كأنَّ اليومَ ماضٍ. وإلى هذا نحا الزمخشريُّ قال: و{إذْ} بدلٌ من {اليوم}. وحَمَلَه الزمخشريُّ على معنى: إذْ تبيَّن وصَحَّ ظُلْمُكم، ولم يَبْقَ لأحدٍ ولا لكم شبهةٌ في أنَّكم كنتم ظالمين. ونظيرُه:
إذا ما انْتَسَبْنا لم تَلِدْني لئيمةٌ

أي: تَبَيَّن أني وَلَدُ كريمةٍ. وقال الشيخ: ولا يجوزُ البدلُ ما دامت (إذ) على موضوعِها من المُضِيِّ، فإنْ جُعِلَتْ لمطلقِ الزمانِ جاز. قلت: لم يُعْهَدْ في (إذ) أنها تكونُ لمطلقِ الزمان، بل هي موضوعةٌ لزمانٍ خاصٍ بالماضي كأَمْسِ. الثاني: أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه: بعد إذ ظَلَمْتُمْ.
الثالث: أنها للتعليلِ. وحينئذٍ تكونُ حرفًا للتعليلِ كاللام. الرابعُ: أنَّ العاملَ في (إذ) هو ذلك الفاعلُ المقدَّرُ لا ضميرُه. والتقدير: ولن ينفعَكم ظلمُكم أو جَحْدُكم إذ ظَلَمْتم. الخامس: أنَّ العاملَ في (إذ) ما دَلَّ عليه المعنى. كأنه قال: ولكن لن ينفعَكم اجتماعُكم إذ ظَلَمْتُمْ. قاله الحوفي، ثم قال: وفاعلُ {يَنْفَعَكم} الاشتراكُ. انتهى. فظاهرُ هذا متناقضٌ؛ لأنَّه جَعَلَ الفاعلَ أولًا اجتماعَكم، ثم جعلَه آخِرًا الاشتراكَ. ومنع أَنْ تكونَ (إذ) بدلًا مِن اليوم لتغايُرِهما في الدلالة. وفي كتاب أبي البقاء وقيل: إذْ بمعنى (إن) أي: أَنْ ظَلَمْتُم. ولم يُقَيِّدْها بكونِها أن بالفتح أو الكسر، ولكن قال الشيخ: وقيل: إذ للتعليلِ حرفًا بمعنى (إن) يعني بالفتح؛ وكأنَّه أراد ما ذكره أبو البقاءِ، إلاَّ أنَّ تَسْمِيَتَه (إن) للتعليل مجازٌ، فإنها على حَذْفِ حرفِ العلةِ أي: لأَنْ، فلمصاحبتِها لها، والاستغناءِ بها عنها سَمَّاها باسمِها. ولا ينبغي أَنْ يُعْتَقَدَ أنَّها في كتابِ أبي البقاء بالكسرِ على الشرطية؛ لأنَّ معناه بعيدٌ.
وقرئ {إنكم} بالكسرِ على الاستئناف المفيدِ للعلةِ. وحينئذٍ يكونُ الفاعلُ مضمرًا على أحدِ التقادير المذكورة.
{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41)}.
قوله: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ}: قد تقدَّم الكلامُ عليه قريبًا.
{أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)}.
وقرئ {نُرِيَنْكَ}: بالنونِ الخفيفة. والعامَّةُ على {أُوحِيَ} [الزخرف: 43] مبنيًّا للمفعولِ مفتوحَ الياء، وبعضُ قرأء الشام سَكَّنها تخفيفًا. والضحاك {أَوْحَى} مبنيًا للفاعل وهو اللَّهُ تعالى.
{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)}.
قوله: {مَنْ أَرْسَلْنَا}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنَّ {مَنْ} موصولة، وهي مفعولةٌ للسؤالِ. كأنه قيل: واسأل الذي أرْسَلْناه مِنْ قَبْلِك عَمَّا أُرْسِلوا به، فإنَّهم لم يُرْسَلوا إلاَّ بالتوحيد. الثاني: أنَّه على حَذْفِ حَرْفِ الجرِّ على أنه المسؤولُ عنه. والمسؤولُ الذي هو المفعولُ الأولُ محذوفٌ، تقديرُه: واسْأَلْنا عن مَنْ أَرْسَلْناه. الثالث: أنَّ {مَنْ} استفهاميةٌ مرفوعةٌ بالابتداء، و{أَرْسَلَ} خبرُه. والجملةُ مُعَلِّقَةٌ للسؤالِ، فتكونُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ، وهذا ليس بظاهرٍ، بل الظاهرُ أنَّ المُعَلِّقَ للسؤال إنما هو الجملةُ الاستفهاميةُ مِنْ قوله: {أَجَعَلْنا}. اهـ.

.تفسير الآيات (46- 56):

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقال إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قال يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان التقدير: فلقد أرسلنا جميع رسلنا وهم أشرف الخلق بالتوحيد الذي جئت به، وما كنا في إرسالنا إياهم مراعين لما يريده الأمم من جاه أو مال أو غير ذلك، فلا وجه للاتكال عليك فيما أرسلناك به من التوحيد وغيره، ولا لمعاداتك فيه، عطف عليه أول من أرشد إلى سؤال أتباعهم فقال مؤكدًا أجل ما يعاندون به من إنكار الرسالة، وأتى بحرف التوقع لما اقتضاه من الأمر بسؤال الرسل عليهم الصلاة والسلام: {ولقد أرسلنا} أي بما ظهر من عظمتنا.
ولما كان الإرسال منه سبحانه ليس على حسب العظمة في الدنيا بما يراه أهلها كما قال هؤلاء {لولا نزل هذا القرآن}- الآية، قال مناقضًا لهم: {موسى} أي الذي كان فرعون يرى أنه أحق الناس بتعظيمه لأنه رباه وكفله {بآياتنا} أي التي قهر بها عظماء الخلق وجبابرتهم، فدل ذلك على صحة دعواه وعلى جميع الآيات لتساويها في القدرة وخرق العادة.
ولما كان السياق لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم الرسل عن أمر التوحيد، كانت الآيات كافية، فلم يذكر السلطان لأنه للقهر والغلبة: {إلى فرعون} أي لأنه طغى وبغى وادعى أنه هو الرب الأعلى ووافقه الضالون: {وملأه} الذين جعلهم آلهة دونه وعبدهم قومهم فلم يقرهم على ذلك لأنا ما رضيناه {فقال} بسبب إرسالنا {إني رسول} وأكد لأجل إنكارهم ما أنكره قومك من الرسالة.
ولما كان الإحسان سببًا للإذعان قال: {رب العالمين} أي مالكهم ومربيهم ومدبرهم.
ولما كانوا قد فعلوا من الرد لرسالته صلى الله عليه وسلم والاستهزاء بها ما فعلته قريش، قال مسليًا للنبي صلى الله عليه وسلم ومهددًا لهم تسبيبًا عما تقديره: فقالوا له ائت بآية، فأتى بها على ما تقدم غير مرة بما هو كالشمس بيانًا وحسنًا: {فلما جاءهم بآياتنا} بالإتيان بآيتي اليد والعصا اللتين شهدوا فيهما عظمتنا ودلتاهم على قدرتنا على جميع الآيات {إذا هم} أي بأجمعهم استهزاء برسولنا، وطال ما يضحك عليهم هو ومن آمن برسالته وبما جاء به عنا يوم الحسرة والندامة {منها يضحكون} أي فاجؤوا المجيء بها من غير توقف ولا كسل بالضحك سخرية واستهزاء.
ولما كان ربما ظن ظان أن في الآيات ما يقبل شيئًا من ذلك، بين حالها سبحانه بقوله: {وما} أي والحال أنا ما {نريهم} على ما لنا من الجلال والعلو والكمال، وأعرق في النفي بإثبات الجار وأداة الحصر لأجل من قد يتوهم أنهم معذورون في ضحكهم فقال: {من آية إلا هي أكبر} أي في الرتبة {من أختها} أي التي تقدمت عليها بالنسبة إلى علم الناظرين لها لأن الآدمي لما له من النسيان إذا أتاه الثاني من المتساويين رأى جميع من أتاه ناسيًا ولا بعض من أتى الأول فيقطع بأنه أكبر منه، أو أن هذا كناية عن أنها كلها في نهاية العظمة كما قال شاعرهم:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم

أو أن بينها في الكبر عمومًا وخصوصًا من وجه، وأحسن من ذلك ما أشار إليه ابن جرير من أن كل آية أوضح في الحجة عليهم وأوكد مما قبلها، لأنها دلت على ما دلت عليه وزادت ما أفادته المعاضدة من الضخامة فصارت هي مع ما قبلها أكبر مما قبلها عند ورودها وإقامة الحجة بها.
ولما كان التقدير: فاستمروا على كفرهم ولم يرجعوا لشيء من الآيات لأنا أصممناهم وأعميناهم وأحطنا بهم الضلال لعلمنا بحالهم، عطف عليه قوله: {وأخذناهم} أي أخذ قهر وغلبة {بالعذاب} أي كله لأنا واترنا عليهم ضرباته على وجه معلم بأنا قادرون على ما نريد منه فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم {آيات مفصلات} والقطع: البرد الكبار الذي لم يعهد مثله ملتهبًا بالنار، وموت الأبكار، فكانت آيات على صدق موسى عليه الصلاة والسلام بما لها من الإعجاز، وعذابًا لهم في الدنيا موصولًا بعذاب الآخرة، فيا لها من قدرة باهرة وحكمة ظاهرة {لعلهم يرجعون} أي ليكون حالهم عند ناظرهم الجاهل بالعواقب حال من يرجى رجوعه.
ولما كان فرعون في كثير من الضربات التي كان يضربه بها سبحانه- كما مضى في الأعراف عن التوراة- يقول لموسى عليه الصلاة والسلام: قد أخطأت والرب بار وأنا وشعبي فجار، فصلينا بين يدي الرب فإنه ذو إمهال وأناة، فيصرف عني كذا، فإذا صرف الله ذلك عنهم عاد على ما كان عليه من الفجور، كان فعله ذلك فعل من لا يعتقد أنه موسى عليه الصلاة والسلام نبي حقيقة، بل يعتقد أنه ساحر، وأن أفعاله إنما هي خيال، فكذلك عبر عن هذا المعنى بقوله عطفًا على ما تقديره، فلم يرجعوا: {وقالوا} أي فرعون بالمباشرة وأتباعه بالموافقة له: {يا أيها الساحر} فنادوه بأداة البعد مع الإفهام بقالوا دون {نادوا} أنه حاضر إشارة إلى بعده من قلوبهم، والتعبير بهذا توبيخ لقريش بالإشارة إلى أنهم وغيرهم ممن مضى يرمون الرسول بالسحر ويقرون برسالته عند الحاجة إلى دعائه في كشف ما عذبهم ربهم به، وذلك قادح فيما يدعون من الثبات والشجاعة والعقل والإنصاف والشهامة، وذلك كما وقع لقريش لما قال النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف» فقحطوا، فلما اشتد عليهم البلاء أتى أبو سفيان بن حرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الشريفة فقال: يا محمد! إنك قد جئت بصلة الأرحام وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم، فدعا لهم فأغيثوا، فلا شك أن ترجمة حالهم هذا الذي ذكره الله من التناقض الذي لا يرضاه لنفسه عاقل، وهو وصفه بالسحر وطلب الدعاء منه يمنع اعتقاد أنه ساحر، واعتقاد أنه ساحر يمنع طلب الدعاء منه عند العاقل {ادع لنا ربك} أي المحسن إليك بما يفعل معك من هذه الأفعال التي نهيتنا بها إكرامًا لك {بما} أي بسبب ما {عهد عندك} من أنه يفعل من وضعها ورفعها على ما تريد على ما أخبرتنا أنه إن آمنا أكرمنا، وإن تمادينا أهاننا، ثم عللوا ذلك بقولهم مؤكدًا تقريبًا لحالهم البعيدة من الاعتداء بما يخبر به شاهد الوجود: {إننا لمهتدون} أي اهتداء ثابتًا يصير لنا وصفًا لازمًا عند كشف ذلك عنا.
ولما كان العاقل لا يخبر عن نفسه إلا بما هو صحيح، فكيف إذا كان عظيمًا بين قومه فكيف إذا أكد ذلك بأنواع من التأكيد، فكان السامع لهذا الكلام يقطع بصدقه، بين تعالى ما يصحح أن حالهم حال من يعتقد أنه ساحر بأنهم أسرعوا الخيانة بالكذب فيه من غير استحياء ولا خوف، فقال معبرًا بالفاء دلالة على ذلك: {فلما كشفنا} على ما لنا من العظمة التي ترهب الجبال {عنهم العذاب} أي الذي أنزلناه بهم {إذا هم ينكثون} أي فاجؤوا الكشف بتجديد النكث بإخلاف بعد إخلاف {ونادى فرعون} أي زيادة على نكثه {في قومه} أي الذين لهم غاية القيام معه، وأمر كلًا منهم أن يشيع قوله إشاعة تعم البعيد كما تشمل القريب فتكون كأنها مناداة إعلامًا بأنه مستمر على الكفر لئلا يظن بعضهم أنه رجع.
ولما كان كأنه قيل: لم نادى؟ أجاب بقوله: {قال} أي خوفًا من إيمان القبط لما رأى من أن ما شاهدوا من باهر الآيات مثله يزلزل ويأخذ بالقلوب: {يا قوم} مستعطفًا لهم بإعلامهم بأنهم لحمة واحدة، ومستنهضًا بوصفهم بأنهم ذوو قوة على ما يحاولونه، مقررًا لهم على عذره في نكثه بقوله: {أليس لي} أي وحدي {ملك مصر} أي كله، فلا اعتراض على بني إسرائيل ولا غيرهم، لينتج له ذلك على زعمه أن غلبته على بني إسرائيل ومقاهرته على إخراجهم من تحت يده بغى على من له الملك فتكون فسادًا فلا بأس عليه إذا خدع من فعل به ذلك بما عاهده عليه عند مس الضر، ولم يقرأ بالصرف ليكون نصًا على مراده من العلمية، ولأن المصر يطلق على المدينة الواحدة، والتنوين يأتي للتحقير وهو ضد مراده.